الصابئة المندائيون – بين قلب الذاكرة وانقلابها

في مرحلة اليفاعة واطلالة الشباب، كنت شغوفاً بقضاء أيام العطل المدرسية ، بزيارة (الأهوار) الساحرة والقرى المتناثرة على دجلة الطافح بالمياه، كنت اقضي أياماً تمتد لأسابيع مليئة بالمرح و(المغامرات ) ليس بفعل نشاط اليفاعة وحسب، بل لتلك المفارقات التي لا تنتهي .

كنت أغرم بصيد السمك ورمي الطيور، لذا كنت أحشر نفسي للذهاب مع أقربائي من مختلف الأعمار الى تلك الغزوات الصيدية ، وأطلب منهم ان أمارس حصتي، فأمسك الشبكة (السلّية) بعد المساعدة في تهيئتها، لكن ما ان اقذفها في النهر رابطاً الحبل بيدي كما تقتضي الطريقة، حتى تسحبني وراءها، فيسارع أقربائي لنجدتي وسط ضحك وقهقهات ساخرة (عفية – خوش سمجة- هاي هي صادتك ) اما إذا استخدمت الفالة مع مطاردة البلم (الزورق) للسمكات السريعة، فإن (الفالة) تفلت من يدي لتنغرس في الطين أو نباتات البردي، لنعود كي نخلصها من جديد مع تعليقات جديدة (راح نحطلك خرزة زركَه) (شوف – حتى السمجة مدت لسانها) اما النكتة الأطرف فهي تلك التي تبادلها أقربائي بعد هروب السمكة وبقاء الفالة : تعرف هاي السمجة ذكر لو أنثى..؟ فردّ الثاني : أكيد ذكر لأني سمعتها تقول ( لو ألزمه أضربه جلاق ) أما استخدامي لبندقية الصيد ( الجعازة ) فكادت تنتهي بكارثة ، لكنها مرت بتوبة نصوح بعد ان أدمت (الجعازة ) شفتي وأنفي،الأثر الجسدي الوحيد الذي مازلت أحمله هو نقطة الوشم على رسغي الأيسر بعد ان رمتني الفرس في الساقية حينما حاولت امتطائها، فكان الوشم علاجاً لإزالة الورم حسب اجتهاد الأقارب ، والغرابة إنه قد نفع فعلاً . ذهبت مع قريبي الأكبر لإصلاح (البلم) عند أبي سعدون، رجل مهيب الطلعة أبيض اللحية وغطاء الرأس، يسكن في بيت على طرف السلف (القرية ) رحب الرجل بقريبي بحرارة ، لكن ما لفت انتباهي ان لا احد منهم مدّ يده لمصافحة الآخر كما جرت العادة . طلب قريبي من أبي سعدون برجاء مُلّح،أن يبدأ العمل بالبلم لحاجته الماسّة اليه ،وفعلا ًشرع الرجل بتهيئة (القير) واشعال الموقد لتذويبه بمساعدة قريبي المستعجّل . لم يكن هناك ما أعمله ، فجلست تحت شجرة تين شهية الثمر تبعد امتاراً عن الورشة ، لكني لم امدّ يدي التزاماً بالأصول حيث ينبغي الاستئذان من صاحبها أولاً .

لم يطل الوقت قبل ان تخرج فتاة وادعة العينين مسدولة الشعر ،كأنها إنانا تخرج من رحم أسطورة سومرية، لم تتحرج من وجودي وألقت التحية بالسلام المعهود( السلام عليكم ) فرددت السلام وأنا أرسم ابتسامة تكاد تحتل وجهي كله وتنحدر الى قلبي الذي أوشك القفز من مكانه .

كانت بمثل عمري، فقد أنهيتُ الثاني متوسط واستعدّ لدخول الثالث، أما هي فيبدو انها في الثاني المتوسط كذلك ، كما رأيت من كتاب تحمله،بعد زوال الدهشة الأولى سألتها عن صفها، فأجابت بما توقعته،لكنها أكملت في مادة واحدة وبعلامات قليلة .

عندها فتح باب الجنّة على سعته، فاستعرضت مهارتي في الرياضيات خصوصاً وساعدتها في حلّ بضع مسائل، لن أطيل ، كنت أرى وأحلم في الوقت ذاته ،فتنغرس اللحظات في ذاكرتي وشماً خالداً .

دخلتْ البيت الطيني ، ثم خرجتْ وهي تحمل صينية عليها (قوري ) شاي صغير و( استكانين ) فقط ، لم تعزم أباها وقريبي ،ولم تسألهم إن كانوا يريدون مشاركتنا، خيراً فعلت ،فالخلوة أجمل من أن نقطعها، وإن كنا نجلس امام ناظريهما، ولا شيء يدعو للريبة، لكني لم ارتح لقريبي وهو ينظرني بغضب واستنكار مكتوم، ظنته يعيب جلوسي مع فتاة ، وليس لأني اشرب الشاي معها.

بعد الانتهاء ،أدخلتْ عدة الشاي ثم خرجت وبيدها طبق دعتني لنملأه بالتين الطازج، ففعلنا وتناولناه شهياً طيبا كما لحظاتنا ، لكن قريبي ازداد تأففاً وضيقاً بما أفعل ، فيما انهمك أبو سعدون بتقيير البلم متجاهلاً الأمر، أو ربما مسروراً بدواخله في أن (إبن عشيرة) ،يتناول التين ويشرب الشاي من يد إبنته .

عند الظهيرة ، جاء رجل من ( السلف ) فسلّم قائلا: من رخصتك أبو سعدون ، غدا الجماعة يمي .

ردّ ابو سعدون بابتسامة خجولة وهزة من رأسه دون كلام، لم يعزمنا أو يلحّ علينا كما هي عادة أهل القرى ، موقف لم افهمه حينها، هل من المعقول ان رجلاً كهذا ، يبدو ميسوراً وكريماً ، ان يبخل في إطعام رجل وفتى ..؟ كنت قد سمعت بعض حكايات غير مؤكدة عن الصابئة وكيف أنهم يغضبون ممن يرونه يبصق على الأرض، كذلك اشتغالهم بالسحر والشعوذة ، لكني تصورت أبا سعدون شيخاً مسلماً ، فعمله لا علاقة له بما علق بتصوراتي عن الصابئة . حينما ذهبنا قريبي وانا لتلبية دعوة الغداء ، وما ان ابتعدنا عن بيت ابي سعدون ، حتى التفت قريبي غاضباً : ولك أنت شلون تاكل وتشرب عندهم..؟ ما تعرف حرام..؟ هذولة مو طاهرين . امتدت يدي لحكّ رأسي علًني أفهم ، فكيف لتلك الفتاة العذبة وذلك البيت النظيف والرجل المهيب بلباسه الأبيض ، الا يكونوا طاهرين..؟ يا ملائكة السماء وشياطينها، هل هذا ممكن..؟ : ولك ذولة صُبة ، يعني ما يتطهرون ، افتهمت، استطرد قريبي. لا لم أفهم ، ولا اريد ان أفهم قطعاً ، بل لم احاول حتى تبني ذلك النوع من الفهم أو الأخذ به ،كل ما ندمت عليه ، شيء واحد ، هو إني لم أسعَ للارتباط بتلك الفتاة الملائكية، التي لاحظتُ تعلقها بي وارتياحها الى وجودي، ربما لشعورها باختلافي عمّا تراه في طبيعة التعامل من الآخرين،حيث لا يتناول أحد طعامهم أو شرابهم، ولا يصافح أباها أحد ممن يأتون لأصلاح أو صنع زوارقهم عنده . كانت تلك لحظة وعي مؤلمة، انبثقت أمامي دفعة ثقيلة، لم تعزم الفتاة قريبي ووالدها على شرب الشاي لأنها تدرك النتيجة، ولم يتمسك ابو سعدون ببقائنا للغداء ، لأنه يعرف ان ذلك ليس متاحاً . لامني بقية الأقرباء بعد سماعهم القصة، الوحيد الذي وقف الى جانبي بقوة ، كان الجدّ، الذي زجرهم قائلا: ولكم إتركوا الولد ليش تلوموه، كلنا خلق الله، وماكو فرق عند الله بين البشر، شنو هالسوالف المابيها خير. بعد سنوات طويلة، وفي لبنان ، روت لنا أمّ الياس – صديقي المسيحي – وهي تضحك ، كيف انها استعارت حمار جارتهم أم حسين ، لتنقل عليه حطباً ، وبعد الانتهاء أعادته الى أصحابه وهي تركب ظهره ، فما كان من ام حسين الا ان قامت بغسل ظهر الحمار وهي تقرأ آيات التطهر . ترى هل يرانا أتباع بقية الأديان، بأننا غير طاهرين كما نراهم..؟

اترك رد