لم يكن يتوقع “كامل هرمز” ذو الثلاثين عاما بعد ان اجتاحت التنظيمات الارهابية منطقة القوش شمالي محافظة نينوى شمالي العراق والتي تسكنها الاغلبية المسيحية، ان هجرته ستكون صوب محافظة بابل وتحديدا في مركزها مدينة الحلة جنوب البلاد، ولعل المفاجاة الكبيرة التي يصفها “هرمز” هو وجود كنيسة في تلك المدينة. حيث تضم مدينة الحلة احدى اهم الكنائس في منطقة الفرات الاوسط، تسمى كنيسة مريم العذراء، ويقول المؤرخ والصحفي “محمد هادي”، ان كنيسة مريم العذراء في بابل يعود تأسيسها إلى عام 1985 بعد استملاك قطعة الأرض من بلدية الحلة وقيام طائفة الكلدان الكاثوليك بإنشاء هذه المكان وسط المدينة. ويضيف، حيث افتتحت باحتفال كبير حضره رئيس الطائفة البطريرك مثلث الرحمات يوسف الثاني شيخو في شهر تموز من عام 1987 اي بعد سنتين من وضع حجر الأساس، مشيرا الى ان من اشرف على بنائها و تأثيثها الراحل المهندس إلياس بطرس وساهم أيضا بجزء كبير من نفقات الانشاء والتأثيث. ودعمت محافظة بابل تطوير الكنيسة ليتم إضافة قاعة كبيرة اليها وغرف الضيوف ومكتبة وقاعة للمطالعة لها. ورأى “هرمز” في هذه الكنيسة طوق النجاة لهم، ليست كونها مكانا يأويهم فقط، ولكن كان هنالك شعور كبير بالطمأنينة بوجود دار عبادة خاص بالمسيحيين قائم حتى في اشد الايام تشددا بالتفرقة الدينية والطائفية. وتقام اليوم العديد من المناسبات والقداس داخل الكنيسة بحضور عدد من أبناء الديانة المسيحيين المتواجدين في المدينة ومناطق الفرات الأوسط و مشاركة الأهالي من أبناء الديانة الإسلامية كما احتضنت الكنيسة عددا من العوائل المسيحية التي تم تهجيرها قسرا من المناطق التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي في شمال وغرب العراق قبل 8 سنوات. ويذكر الباحث “عامر تاج الدين”، كانت هناك كنيسة اولى في مدينة الحلة ، تقع في محلة التعيس، في الشارع المجاور لمحطة الوقود قرب شارع الاطباء ، بنيت في العام 1933 ، وكانت عبارة عن بناية قديمة يعلوها برج يحمل جرسا كبيرا من النحاس يدق ايام الاحاد، وبعد الاحتلال الإنكليزي للعراق تحولت الى قنصلية لهم ، وقد هدم البرج في العام 1982 ، وتحولت البناية الى مدرسة ابتدائية. وتحدث “هرمز” عن انه مع تزامن بعض المناسبات الدينية الحزينة لدى المسلمين، امتنعت الكنيسة من الاحتفال بميلاد المسيح عليه السلام ولم تقم القداس او الاحتفال تضامنا مع المسلمين، وقد حدث هذا الشي مرات عدة. كان عدد المسيحيين في العام 1987 يشكلون قرابة 350 عائلة، كلهم مسالمون لا يعرفون المشاكل، لكن ذلك العدد تناقص بشكل تدريجي، ففي عامي 2000-2002 وصل العدد إلى 125 عائلة بحسب كلام “حميد خضر منصور” وهو مواطن مسيحي من بابل. و تبين الإحصائيات الغير رسمية ان الأعوام التي تلت 2003 شهدت تناقصا متواصلا في ذلك الوجود حتى وصل الى 65 عائلة مسيحية، أما اليوم فقد بقي منها فقط عوائل متفرقة”. ويرى “هادي”، ان المسيحيين جاؤوا لمدينة الحلة في العام 1920 بعد خروج العراق من السيطرة العثمانية تقريبا من لبنان ومن فلسطين ومن بعض المحافظات العراقية، كما اثرت الاحداث السياسية في داخل العراق وخارجه مثل انتفاضة الاشوريين في العام 1931 ومذابح الارمن واحداث الموصل في العام 1959 وماجرى في فلسطين عام 1948 كان ايضا سببا في مجيء المسيحيين للحلة. وينوه الى ان المسيحيين في الحلة امتهنوا بعض المهن منها الطب والتمريض النسائي والسباكة ، وهذا يعود للتعليم العالي الذي امتازوا به مسبقا. ويروي “هرمز” شهادته حول مدى التلاحم والعيش المشترك في المدينة ، حيث انه شاهد ذات صباح من العام 2014 مجموعات كبيرة من ابناء مدينة الحلة وهم يقفون أمام الكنيسة حاملين لافتات وشعارات منها ( كلنا مسيحيون) و ترفض الاساءة للمسيحيين او التعرض لهم بعد ورود تهديدات طالتهم ابان التهديد الارهابي لداعش. ويتمنى “هرمز” الذي عاد الى مدينة القوش بعد انتهاء عمليات التحرير، ان تبقى هذه الكنيسة رمزا للتسامح والتعايش السلمي بين الأديان، وان تكون ملاذا امنآ للجميع. ‌وذهب ناشطون الى أن محافظة بابل احتضنت عبر الازمنة العديد من الديانات والقوميات واصحاب الأفكار المتنوعة، ولازالت تتمتع بهذه الفسيفساء إلى حد ما، رغم ما يشهده العراق من تضييق للحريات ولغة العنف الشائعة وغيرها من الأساليب، لكن ما يبعث فينا الامل أن أهالي المدينة متحابون متعايشون مع أنفسهم اولا ومع الآخرين، بعيدا عن التخندقات والعقد التي تحاول الأنظمة السياسية زراعتها وفرضها، وخير دليل على ذلك استقبالهم للعديد من العوائل التي نزحت من شمال وغرب ووسط العراق، حتى أن بعضهم قرر أن يستقر في المدينة و يتزوج فيها ويمارس حياته بمحبة وتسامح واخاء.

كنسية مريم العذراء في بابل.. من قصة البناء ، للملاذ من التشدد

اترك رد